الشيخ مبروك وجيه : الفتوي بين الشريعة والسياسة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الاكملان الطيبان الزكيان الدائمان المباركان علي سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وبعد
( الفتوي بين الشريعة والسياسة)
تخرج بين الحين والآخر فتاوى مذهبية تتناول قضايا سياسية, ذات صبغة دينية فما طبيعة هذه الفتاوى.. هل تعد رأيًا شخصيًّا أم فتوى؟
لا شك أن من الكوارث المترتبة على الفتاوى السياسية هي إدخال المجتمع المسلم في دوامة من الصراعات المذهبية المختلفة، والتأسيس لحالة من الاقتتال الأهلي والصراع التاريخي المستمر، وخطورة مثل هذه الخطوة أنها تأخذ في ظاهرها طابعًا شرعيًّا، ومرجعية مقدسة ينخدع بها الناس والبسطاء، ويتورطون بموجبها فيما لا يحمد عقباه .
أقول : لا إفتاء – ديني – في السياسة، وإنما رؤى ومشورة، فالسياسة شأن دنيوي بحت يتعلق عملها بتسيير شؤون الناس وإدارة اختلافاتهم، مجرد من أيّة قداسة دينية ، عرضة للصواب والخطأ وبالتالي فأيّة فتوى تأتي في هذا الاتجاه إنما تكون عبارة عن وجهة نظر تعبر عن صاحبها أو إتجاه أو رأي سياسي ، فشتان بين الفتوي السياسية والدينية حيث الفتوى السياسية هي رأي سياسي محدد وواضح حول قضية معيّنة، يتدخل فيها كثيرا ويختلط الديني بالدنيوي، والمقدس بالمدنس، والحرام بالحلال، أما الفتوى الشرعية فهي رأي شرعي بمسألة معيّنة، ليست ذات خلفية أو هدف دنيوي في الغالب.
أما الفتوى في اجتهاد فقهي حول مسألة تعبدية مجردة، يتمحور الحكم حولها وفقاً لمراتب الشريعة الأصولية المعروفة.
تعجب حين تري في (الجرح والتعديل ) ابن ابي حاتم يذكر توقى مالك بن أنس إمام دار الهجرة عن الفتوى إلا ما يحسنه ويعلمه يقول : حدثنا أحمد بن سنان قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر حملني أهل بلادي مسألة أسألك عنها قال فسل قال فسأل الرجل عن أشياء فقال لا أحسن قال فقطع بالرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء قال وأي شيء أقول لأهل بلادي إذا رجعت إليهم قال تقول لهم قال مالك بن أنس لا أحسن.
لكن تكون أِشد عجبا حين ترى بعض المتعجلين ممن لا يكاد يحفظ شيئا من كتاب الله ، فضلا عن استنباطه متن القصيدة أو الحديث ، أصبحت تراه مصابا بجنون العظمة, فيفتي بغير علم, ويناقش أبا حنيفة, و يخطئ الشافعي, ويرد على ابن تيمية والذهبي, مرددا مقولة حق أريد بها باطل, فيقول: ( هم رجال ونحن رجال ) ومن خلال هذه العبارة يجيزون لأنفسهم الخوض فيما لا يعرفون, والكلام فيما لا يفقهون, ويحللون ويحرمون دون علم أو هدى, أو كتاب منير, بل أنهم ليخوضون في قضايا محيرة ، ويتجرءون على الفتيا في مسائل مستعصية , لو حصلت في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه ) لجمع لها أهل بدر كلهم , بينما ذلك المتعاظم يصدر فيها رأيه بكل عجلة وتسرع, ولا يجد في صدره من ذلك حرجا, أو غضاضة .
وليت الأمر توقف عن المنتسبين للعلم من ذوي التخصصات الشرعية, بل تعداه إلى أناس يفتقدون حتى المبادئ الأساسية لأي فن من فنون الشريعة ، ممن يحملونها مالا تحتمل ،أو يسيسونها وفقا لأغراضهم وأطماعهم ….
وتتبين منزلة الفتوى في الشريعة من عدة أوجه ، منها :
أ – أن الله تعالى أفتى عباده ، وقال { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن } (النساء / 127) ، وقال : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } . (النساء / 176)
ب – أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتولى هذا المنصب في حياته ، وكان ذلك من مقتضى رسالته ، وقد كلفه الله تعالى بذلك حيث قال : { وأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } النحل(44). فالمفتي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان ، وقد تولى هذه الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام ، ثم أهل العلم بعدهم .
ج – أن موضوع الفتوى هو بيان أحكام الله تعالى ، وتطبيقها على أفعال الناس ، فهي قول على الله تعالى ، أنه يقول للمستفتي : حق عليك أن تفعل ، أو حرام عليك أن تفعل ، ولذا شبه القرافي المفتي بالترجمان عن مراد الله تعالى ، وجعله ابن القيم بمنزلة الوزير الموقع عن الملك قال : إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ، ولا يجهل قدره ، وهو من أعلى المراتب السنيات ، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات . (إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 1 / 10) .
نقل عن النووي : المفتي موقع عن الله تعالى ، ونقل عن ابن المنكدر أنه قال : العالم بين الله وبين خلقه ، فلينظر كيف يدخل بينهم ؟ ( مقدمة المجموع 1 / 73 تكملة المطيعي وتحقيقه) .
ومن العجيب للغاية مع قداسة الفتوي الدينية كما رأينا أن (… الفتوى لا إلزام فيها للمستفتي أو غيره ، بل له أن يأخذ بها إن رآها صوابا وله أن يتركها ويأخذ بفتوى مفت آخر ) . الموسوعة الفقهية الكويتية- إلا أنه تجرأ أناس علي الفتوي ؛ فأوسعوا هوة الخلاف ومزجوا الحق بالباطل…
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار ) أخرجه الدارمي ( 1 / 57 ) ، وفيما نقل عن الإمام مالك أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها ، وكان يقول : من أجاب فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار ، وكيف خلاصه ، ثم يجيب ، وعن الأثرم قال : سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول : لا أدري المجموع شرح المهذب 1 / 40، 41 ) .
أيها المفتون بغير علم :
الإفتاء بغير علم حرام ، لأنه يتضمن الكذب على الله تعالى ورسوله ، ويتضمن إضلال الناس ، وهو من الكبائر ، لقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) الأعراف
أتساءل ونحن اليوم وفي عصر المؤسساتية التي شملت كل مناحي الحياة.. لماذا بقيت الفتوى خارج إطار المؤسسة تمارس بشكل فردي وتوظيف سياسي، وهي أخطر شيء في المجتمع الإسلامي؟
بعد التقدم الهائل في كل مناحي الحياة المختلفة، بات من الضروري، اليوم، أن تتحول الفتوى من مجرد اجتهاد بشري محصور في فرد إلى اجتهاد جماعي في إطار مؤسسة علمية ينضوي تحت لوائها مختلف التخصصات العلمية والشرعية والفلسفية والقانونية، وكل فنون المعرفة الأخرى.
وبالتالي فإن توسع معارف الناس ومداركهم، وتداخلات الحياة وتعقيداتها بات يفرض – اليوم – علينا شيئًا من المنطق أن نحول الفتوى من مجرد رأي فردي إلى ما يشبه المؤسسة العلمية، كما هو حاصل اليوم في مسألة المجامع الفقهية الرائدة، والتي تنأى بالفتوى عن دائرة الاحتكار الفردي،أو التوظيف السياسي لتكون رأيًا عامًا مستندًا للخلفيات المرجعية الإفتائية اللازمة.
ـ هل نستطيع وضع الضوابط التي من خلالها نمييز الفتوى الشرعية عن الفتوى السياسية؟
الشيخ مبروك وجيه إمام وخطيب بوزارة الاوقاف