هنادي خليفة تكتب .. سد فجوة المهارات في مهنة المحاسبة
زيادة وتعزيز الشراكات بين القطاع والأوساط الأكاديمية ضرورة حتمية لنجاح مستقبل الوظائف المالية والمحاسبية
أكدت هنادى خليفة مديرة العمليات في الشرق الأوسط وإفريقيا والهند لدى معهد المحاسبين الإداريين أنه يمكن بمجرد نظرة سريعة إدراك أن ديناميكيات مشهد عمليات الأعمال في القطاع المالي والمحاسبى باتت تتخذ طابعاً أكثر تعقيداً يوماً تلو الآخر.
فمن ناحية، يتعين على الفرق المتخصصة التعامل مع مجموعة متنوعة من العوامل مثل تصاعد حدة المنافسة وتقلب العملات وارتفاع التكاليف وسلاسل التوريد الأكثر تنظيماً وتأثيرات جائحة كوفيد-19 إلى جانب الآثار المتنوعة لاتجاهات الرقمنة المعززة وغير ذلك. ومن ناحية أخرى، تبرز الحاجة إلى استنباط أفكار ومعلومات مفهومة من تدفقات البيانات الهائلة، والتي تأتي مصحوبة بحزمتها الخاصة من التقنيات اللازمة لفك تشفيرها وتوظيفها بالشكل الأمثل؛ تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة على سبيل المثال. وفي حال لم يكن هذا كافياً – يجسّد الدمج التدريجي للعملات المشفرة في منظومة الأعمال وظهور منظومة الرموز غير القابلة للاسترداد جانباً من الأحداث المفاجئة التي تفرض نفسها بصورة متسارعة على هذا المشهد. وتمثل جميع هذه الجوانب تطورات لم يكن الشكل التقليدي من مديري وفرق الشؤون المالية مجهزاً بصورة كافية للتعامل معها، وغالباً ما تطرأ هذه التطورات بشكل مفاجئ ودون سابق إنذار تقريباً. وبالإضافة إلى ذلك، يتعين على هذه الفرق أن تتعامل مع مستويات أكثر صرامة من الامتثال التنظيمي. وفي ضوء عودة الشركات إلى التفاعل مع السوق والتركيز على تحسين الأداء وتعزيز النمو خلال فترة ما بعد الجائحة، تجسد مسألة الانسجام مع جوانب الحوكمة المؤسسية أحد العوامل الأخرى ذات الأهمية القصوى. ومن إدارة المخاطر والامتثال وصولاً إلى إدارة الاحتيال والرقابة التنظيمية وإعداد التقارير ذات الصلة، ينبغي أن تواكب فرق المالية والمحاسبة جميع هذه الجوانب وأكثر في جميع الأوقات. وإلى جانب الصعوبات التي تواجههم في التعامل مع تعقيدات هذه المسألة، يلقى على كاهلهم عبء إضافي يتمثل بمساعدة الموظفين المبتدئين في مواكبة متطلبات هذه المهنة – ليكشف هذا الأمر بالتالي عن تحدّ آخر لا يقل صعوبة: فجوة المهارات الناشئة على مختلف مستويات الشركة.
ويشهد مديرو الشؤون المالية وفرقهم انضمام العديد من الموظفين الجدد إلى المهنة؛ لكن غالباً ما يتمتع هؤلاء الموظفون بمهارات محدودة تقتصر عادةً على أعمال مراجعة وتدقيق الحسابات والضرائب الأساسية. كما يشهد القطاع ندرة حقيقية في الكفاءات اللازمة لقيادة الفرق ودفع عجلة الأعمال. ويجعل هذا التدفق المنخفض لموظفي المالية والمحاسبة ذوي المهارات المناسبة أو العالية من مسألة شغل المناصب المحاسبية الأساسية بشكل فعال في المؤسسات أمراً مستحيلاً تقريباً، الأمر الذي يتسبب بإعاقة الأداء والنمو والتوسع الاقتصادي.
وأوضحت هنادى خليفة أنه في حالة عدم إيجاد الحلول المناسبة، يمكن أن تحمل مشكلة “الموظفين المبتدئين” تأثيرات خطيرة على مجالي المالية والمحاسبة عبر مختلف الصناعات والقطاعات. لكن بطبيعة الحال، هناك حلول لهذه المشكلة. وينصب التركيز على قيام الأوساط الأكاديمية بإعادة إحياء المناهج ومنهجيات التدريس القديمة من أجل دمج المعلومات المعاصرة والمنسجمة مع توجهات القطاع. وبالنسبة لمجال المالية والمحاسبة على وجه الخصوص، ينبغي أن يفسح النهج القديم المجال لنظيره الحديث وأن تقوم الكليات والجامعات بإدخال المحاسبة الإدارية في كل من مجالي المالية والمحاسبة ومسارات إدارة الأعمال، وذلك بهدف ضمان تعامل الطلاب بشكل مباشر مع منهجية إدارة مالية مناسبة لقطاع الأعمال.
ويبدأ الكثير من هذه الجوانب بشكل فعلي في الفصل الدراسي. ولكن حتى وقت قريب، كانت المناهج المعتمدة في الفصول الدراسية تركز بشكل ضيق للغاية على المحاسبة المالية، لاسيما مجالات مراجعة وتدقيق الحسابات والضرائب والتقارير القانونية والامتثال. ويستهل العديد من المتخصصين الشباب مساراتهم المهنية في شركات المحاسبة العامة بأدوار تقتصر على مراجعة وتدقيق الحسابات والضرائب. ولكن عند انتقالهم لشغل مناصب المحاسبة الإدارية أو مناصب استشارية، حيث يكون التركيز منصباً على إنشاء القيمة، يكتشف هؤلاء الشباب ببساطة أنهم لا يتمتعون بالمهارات المطلوبة لفهم العمليات التجارية وتقديم قيمة استراتيجية مضافة للشركة. وعلى سبيل المقارنة، تختلف المحاسبة الإدارة عن نظيرتها المالية لأن غرضها يتمثل بمساعدة المستخدمين داخل الشركة في اتخاذ قرارات تجارية مستنيرة.
وعلاوة على ذلك، تجسّد الحاجة إلى زيادة وتعزيز الشراكات بين القطاع والأوساط الأكاديمية ضرورة حتمية لنجاح مستقبل الوظائف المالية والمحاسبية والمشهد المهني عموماً. وتوفر مستويات المشاركة المتنامية لمتخصصي القطاع في الفصول الدراسية مجموعة من الفرص للطلاب من أجل الاطلاع على العديد من المسائل التي تواجههم على أرض الواقع. لكن في ظل ما تشهده الأسواق أيضاً من تغيّرات مستمرة ومتسارعة أكثر من أي وقت مضى، تبرز الحاجة إلى خريجين يتمتعون بقدر أكبر من المرونة والقدرة على التعامل مع تغيّرات كهذه. ومن أجل القيام بذلك، تعمل كبرى كليات إدارة الأعمال على إحداث نقلة نوعية تطال مناهجها الدراسية وطرائق التدريس المعتمدة بحيث تكون أكثر شمولاً للموضوعات ذات الصلة بما يتجاوز حدود البيانات المالية التقليدية التي تؤثر على الشركات اليوم. وتسهم مسألة الدمج بين الجانبين النظري والعملي في تسريع منحنى تعلم الطلاب وتزويدهم بالمهارات اللازمة لإعدادهم من أجل خوض غمار العالم المهني. وبالرغم من ذلك، يبقى الدور المستقبلي للمؤسسات التعليمية يتمثل في تلبية متطلبات القطاع الخاص المستمرة بالتغير.
وفي ظل ابتعادها عن أعمال المراجعة والتدقيق والتقارير القانونية والامتثال التقليدية، واتخاذها لطابع إداري أكثر يساعد في إنشاء القيمة، حفزت مهنة المحاسبة مستويات الطلب على المتخصصين متعددي المواهب ممن يمتلكون مهارات أوسع في مجالات المحاسبة والمالية والتكنولوجيا والعمليات والقيادة. وعلاوة على ذلك، يمتلك هؤلاء المتخصصون أيضاً مجموعة مهارات يصعب استبدالها بواسطة الأتمتة مثل الخدمات الاستشارية واتخاذ القرارات والاستراتيجية والاتصال. ومع تسارع وتيرة الثورة الرقمية، يثمّن مديرو الشؤون المالية المهارات الشخصية كالذكاء العاطفي والقدرة على التقييم السريع لمختلف المواقف والحالات والتواصل الفعال. وعلى مستوى تقني أكثر، سيحتاج هؤلاء المتخصصون أيضاً للاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي بما يشمل الحوسبة المعرفية وتعلّم الآلة.
وبالنظر إلى توجه عدد أكبر من المؤسسات التعليمية لتقديم دورات المحاسبة الإدارية وقيام عدد متزايد من المديرين الماليين بتوظيف المحاسبين الإداريين، من الضروري أيضاً بالنسبة للشركات أن تستثمر في التطوير المهني لفرق المالية والمحاسبة الحالية بهدف تعزيز مهارات التخطيط والقيادة وغيرها من المهارات المهمة الأخرى لدى أفرادها. ووفقاً لتقرير مستقبل الوظائف (2020) الصادر عن “المنتدى الاقتصادي العالمي”، يحتاج 54% من موظفي المؤسسات الكبرى إلى عملية إعادة تأهيل وصقل للمهارات من أجل مواكبة التحول السريع للأسواق. وأدركت العديد من المؤسسات أن برامج التوجيه والتدريب الداخلي والتدريب المهني ومنح الشهادات قد ساهمت في بناء مواهب محاسبية ومالية تتمتع بالقدرة على تقديم القيمة عبر مختلف الأقسام والإدارات ودعم القرارات المتخذة من قبل الإدارة. ودون أدنى شك، ستسهم مسألة توسيع قاعدة معارف المتخصصين في مجال المحاسبة في منحهم القدرة على التكيف عند حدوث تغييرات مفاجئة. وفي نهاية المطاف، ستقطف الشركات ثمار هذه المعارف الأوسع على شكل أداء أفضل وربحية أكبر. ولذلك، تندرج هذه المهمة المطروحة تحت مظلة الجهود التعاونية؛ إذ لا يمكن تحقيقها إلا عند شروع كل من القطاع الأكاديمي والعام والخاص بتحديد مجموعة المهارات المطلوبة في المستقبل القريب، والتي ستسهم بدورها في تمكين الجيل القادم من تحقيق النجاح والازدهار.