تحليلات ومقالات

الشيخ ياسر عدلي : العفّة طهارةُ الروح ….وسُمُوّ الإنسان

العفّة هي تلك النورانية التي ترفرف في قلب المؤمن، فتسمو به فوق الغرائز، وتحرّره من أسر الشهوة، وتُلبسه ثوب الكرامة والعزّة. هي خلقٌ إذا سكن القلب زكّاه، وإذا ساد المجتمع طهّره. إنها الحارس الأمين على حدود الطهر، والعين الساهرة على بقاء الإنسان إنسانًا لا حيوانًا أسيرًا لغرائزه.

في دنيا امتلأت بالضجيج، وتكاثرت فيها المغريات، تبدو العفّة كنسمةٍ نقيةٍ تهبّ من جنّات الإيمان، لتنعش روحًا أرهقها اللهاث وراء المادة، وتعيد إليها توازنها المفقود. ما أعظم هذا الخلق الذي يجعل من كبح الشهوة بطولة، ومن ضبط النفس انتصارًا.

لقد جاء الإسلام فرفع من شأن العفّة حتى جعلها عبادةً خفيةً بين العبد وربه، تُكتب له بها الحسنات وإن لم يره أحد. قال تعالى:
{وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله}،
فهي أمرٌ سماويٌّ لمن ضاق رزقه أن يبقى طاهرًا صابرًا حتى يفتح الله له باب الحلال. وفي الصحيح :
«ومن يستعفف يعفّه الله»
فهي عونٌ من رب السماء لمن صدق في المجاهدة، وسما في إرادته.

العفّة ليست حرمانًا ولا انغلاقًا، بل هي قمة الحرية، لأن الحرّ حقًّا هو من يملك نفسه، لا من تملكه شهواته. من أعظم مظاهر العبودية أن تُمسك بزمام نفسك، حين يركض غيرك وراء لذّةٍ عابرةٍ يظنها حياة. إنها لذّةٌ زائفةٌ سرعان ما تخلف وراءها فراغًا وألمًا وذنبًا، بينما العفّة تترك في النفس صفاءً ونورًا وسكينةً لا يعرفها إلا من ذاقها.

وفي مقابل هذا الصفاء، تبدو الحضارة الغربية وتابعوها اليوم كعملاقٍ تقنيٍّ خاوٍ من الروح. بلغت الذروة في الصناعة والاكتشاف، لكنها هوت في مهاوي الانحلال. فقد حطّمت باسم “الحرية” كل القيم التي تحفظ كرامة الإنسان. صارت العفّة في نظرها عقدةً نفسية، والحياء ضعفًا، والطهر تخلّفًا. أطلقت سراح الجسد فقيدت الروح، وأشبعت الغرائز فجفّ القلب. ألغت الحياء باسم الفن، وهدمت الأسرة باسم الحرية، فانهار الإنسان بين يدي شهواته.

يا للمفارقة! حين ضحكت الحضارة ساخرةً من العفّة، بكت إنسانيتها. حين نادت بالتحرر، كبّلت نفسها بقيود الشهوة. فكم من فتاةٍ باعت جسدها بزخرفٍ زائل، وكم من قلبٍ تحطّم في طريق المتعة العابرة. ومن العجب أن أقوامًا رفعوا شعار حقوق الإنسان، نسوا أن أول حقوق الإنسان أن يُصان من الابتذال.

أمّا الإسلام، فقد رسم للإنسان طريق النور؛ جمع بين الغريزة والضمير، بين الجسد والروح، فلم يكبت ولم يُطلق، بل نظّم وعدّل. جعل الزواج سكنًا ورحمة، لا لهوًا وشهوة فحسب ،جعل الحجاب عِزّةً، لا قيدًا، وغضّ البصر تزكيةً للنظر قبل أن يكون ضبطًا له. إنّ الإسلام لم يُرِد من المرأة أن تختبئ، بل أراد منها أن تُكرَّم. ولم يُرِد من الرجل أن يُحرَم، بل أراد منه أن يسمو.

العفّة ليست خُلقًا للفقراء أو للزهاد فحسب، بل هي تاج المؤمنين، وزينة العقلاء، وبها تُعرف المروءة وتُقاس الرجولة والأنوثة. إنّها ميزان الإنسانية الحقيقي، لأن الإنسان لا يكون إنسانًا إلا إذا ملك غرائزه، وأحسن استخدامها في موضعها.

وللعفّة أثرها العميق في المجتمع؛ فهي تصون الأسرة من التمزق، وتغرس في النفوس الحياء والوفاء، وتغلق أبواب الفتن.
وما من أمةٍ تهاونت في العفّة إلا فقدت حياءها، وإذا فقدت حياءها فقدت حياتها. العفّة ليست حجاب امرأةٍ فحسب، بل حجاب أمةٍ كاملة عن الفحش والانحطاط.
إننا اليوم أحوج ما نكون إلى استعادة هذا الخلق النبيل، لا كشعارٍ دينيٍّ يُرفع فقط ، بل كقيمةٍ إنسانيةٍ تُعاش. علينا أن نعيد الاعتبار للعفّة في مدارسنا وبيوتنا وشاشاتنا، وأن نغرس في أبنائنا أن العفّة ليست قيدًا، بل مجدٌ، وأن الطهر ليس ضعفًا، بل قوة. فالأمة التي تحفظ طهرها تحفظ مستقبلها، ومن ضيّع عفّته ضيّع وجوده.
فيا من أراد الكرامة، تمسّك بالعفّة، فإنها نهر النقاء الذي يطهر القلب من أدران الهوى، وهي السور الذي يحمي الروح من السقوط في وحل الشهوة. وما أجمل قول ابن القيم: “من لم يصبر على حرّ العفّة، لم يذق برد الكرامة”.
إنّ العفّة ليست خُلقًا يُدرّس في الكتب، بل حياة تُعاش، ونورٌ يُستضاء به في ظلمات المادة، وبابٌ من أبواب السموّ يوصّل إلى الله. هي عزّة المؤمن في زمن التهافت، وكرامةُ الإنسان في عصر السقوط. ومن أراد حياةً نظيفةً كريمة، فليلزم طريق العفّة، ففيها طمأنينةُ القلب، ونورُ الوجه، وصفاءُ الحياة.

الشيخ ياسر عدلي
امام وخطيب بوزارة الاوقاف