الهيئة الشرعية للمصرف المتحد : نحو صيرفة إسلامية منضبطة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد …
جاءت الشريعة الإسلامية بالكليات التي تحفظ للناس والمجتمعات البقاء والنماء، ولقد قسم الفقهاء مقاصد الشريعة إلى خمسة مقاصد أساسية هي: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل والعرض، حفظ المال.
وحفظ المال ضرورة ومقصد شرعيمهم، وأحد الوسائل المعتبرة لتحقيق كافة المقاصد الشرعية السابقة عليه ، ذلك أن الدين والنفس والعقل والنسل يتطلب لحفظها المال الذي هو عصب الحياه وأداة لتقييم كفاءة العمل وتحقيق التنمية ، وبه تتم هذه النعم قال تعالي : ” وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَوَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ” سورة الفرقان : الآية: (20) قال القرطبي في تفسير هذه الآية انها أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة ، وغيرها ، وحفظ المال يكون من وجهتين :
الوجه الاول من حيث الايجاد وذلك بطلب تحصيله وايجاد فرص واسباب تصل اليه، ولقد تأثرت الاعمال المصرفية من هذه الوجهة فجعلت العقود ترتبط بالمال من حيث ايجاده سواء في شكل نقدي او سلعي، وتعددت في ذلك الصيغ مثل السلم والاستصناع وبعض عقود المشاركات، وكلها تهدف الى الحصول على المال ابتداءً عن طريق العمل والزراعة والصناعة، قال تعالى: ” هُوَالَّذِيجَعَلَلَكُمُالْأَرْضَذَلُولًافَامْشُوافِيمَنَاكِبِهَاوَكُلُوامِنرِّزْقِهِ ” سورة الملك: الآية (15)
الوجه الثاني حفظ المال بصيانته من التلف أو الإفساد، لذلك نجد أن الشريعة الإسلامية اتخذت خمسة ضمانات لصيانة المال وأثرت هذه الضمانات تأثيراً كبيراً وفاعلاً وضابطاً على المعاملات المصرفية المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، ومن اهم الاحكام الشرعية التي رسخت لمقصد حفظ المال بصيانته هذه الاحكام الأربعة:
تحريم الاعتداء علي المال او اتلافه او الافساد فيه : جعل الله اكل اموال الناس واخذ المال دون نية السداد من المحرمات قال تعالي ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ” سورة النساء: الآية ( 29 ) ، لذا نشأ مبدأ العدالة في العقود وتحديد الحقوق والواجبات والالتزامات المالية وغيرها ، بل ان النبي صلى الله عليه وسلم توعد بالهلاك على الذى يتلف أموال الناس فقال : ” وَمَنْأَخَذَيُرِيدُإِتْلَافَهَاأَتْلَفَهُاللَّه ” ( رواه البخاري في صحيحه) .
تحريم الاسراف: ويظهر ذلك في معالجة المصروفات المرتبطة بالعقود المالية والمصرفية، حيث يكون ترشيد الأنفاق في احد المسموح به لا تمام الصفقات والمعاملات، قال تعالي “وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ” سورة الأعراف: الآية ( 31 ) .
توثيق الديون والعقود: قال تعالي ” يَاأَيُّهَاالَّذِينَآمَنُواإِذَاتَدَايَنتُمبِدَيْنٍإِلَىأَجَلٍمُّسَمًّىفَاكْتُبُوهُ ” سورة البقرة: الآية (282)، ونشأ عن وجوب التوثيق، الإشهاد في المعاملات وقبول الضمانات وحق الارتهان قال تعالي: ” فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ” سورة البقرة : الآية ( 283 )
نهي الإسلام عن اكتناز المال ونهى عن الاحتفاظ به دون استثمار فعلي وحقيقي ، ولقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك عندما أمر بالإتجار في أموال اليتامى معللاً هذا الحكم العظيم حتى لا يترك المال دون استثمار فتستحق عليه الزكاة دون أي نمو له فيتأكل ، لذا قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أَلَامَنْوَلِيَيَتِيمًالَهُمَالٌفَلْيَتَّجِرْفِيهِ،وَلَايَتْرُكْهُحَتَّىتَأْكُلَهُالصَّدَقَةُ ” ( رواه الترمذي في السنن) ، فما أجل هذه المقاصد وأعظمها ، وما أحكمها في إدارة العلاقات المالية بين الافراد والمؤسسات ، وخاصة في المعاملات المصرفية المعاصرة ،ولقد قرر العلماء أن الأحكام الشرعية هي وعاء المصالح الحقيقية، وأن المصلحة المقصودة ليست مرتبة واحدة لكنها على ثلاث مراتب.
المرتبة الأولى: الضروريات: وهي التي لا تتحقق وجوه المصلحة المذكورة إلا بها، فالضروري بالنسبة للنفس هو المحافظة على الحياة، والمحافظة على الأطراف، وكل ما لا يمكن أن تقوم الحياة إلا به، والضروري بالنسبة للمال هو ما لا يمكن المحافظة عليه إلا به.
وفي الجملة فإن دفع كل ما يترتب عليه فوات أصل من الأصول الخمسة المذكورة يُعَدُّ ضرورياً، وقد شَدَّد الشارع الإسلامي في حمايته، وأعطاه زيادة من التأكيد، وأنه إذا ترتب حفظ الحياة على فوات أمر محظور أباح الشارع تناول المحظور، بل أوجبه إذا لم يكن فيه اعتداء على أحد.
المرتبة الثانية: الحاجيات: وهي التي لا يكون الحكم الشرعي فيها لحماية أصل من الأصول الخمسة، بل يقصد منه دفع المشقة أو الحرج أو الاحتياط لهذه الأمور الخمسة، كتحريم بيع الخمر، لكيلا يسهل تناولها، وتحريم رؤية عورة المرأة، وتحريم تلقي الركبان، وتحريم الاحتكار، والاحتيال، ومن ذلك إباحة كثير من العقود التي يحتاج إليها الناس، كالمزارعة والمساقاة، والسَّلَم، والمرابحة والتولية.
المرتبة الثالثة: التحسينيات: وهي الأمور التي لا تحقق أصل هذه المصالح، ولا الاحتياط لها، ولكنها ترفع المهابة، وتحفظ الكرامة، وتحمي الأصول الخمسة.
ومن ذلك بالنسبة للنفس حمايتها من الدعاوى الباطلة والسب، وغير ذلك مما لا يمس أصل الحياة، ولا حاجيات من حاجياتها، ولكن يمس كمالها ويشينها، ومن ذلك بالنسبة للأمور المالية تحريم التغرير والخداع والنَّصْب؛ فإنه لا يمس المال ذاته، ولكنه يمس إرادةَ التصرف في المال عن بَيِّنَةٍ ومعرفة، وإدراكٍ صحيح لوجوه الكسب والخسارة، فهو لا اعتداء فيه على أصل المال، ولكن الاعتداء على إرادة المتصرف.
إن من مظاهر المحافظة على المالمنع الاعتداء عليه بالسرقة والغصب ونحوهما، وتنظيم التعامل بين الناس على أساس العدل والرضا، وبالعمل على تنمية المال ووضعه في الأيدي التي تصونه وتحفظه، وتقوم على رعايته، فالمال في أيدي الآحاد قوة للأمة كلها، ولذا وجبت المحافظة عليه بتوزيعه بالقسطاس المستقيم، وبالمحافظة على إنتاج المنتجين، وتنمية الموارد العامة، ومنع أن يؤكل المال بين الناس بالباطل وبغير الحق الذي أحله الله تعالى لعباده.
ويدخل في المحافظة على المال كل ما شرع للتعامل بين الناس من بيوع ومشاركات وإجارة وغيرها من العقود التي يكون موضوعها المال.