د/ عماد محمد مجاهد: براعة الاستهلال في آيات الصيام

أنزل اللهُ تعالى كتابَه بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، مُعجزٍ في لغته وبلاغته، قد جاء في ذلك بأحسن الأساليب وأروعها، وبأرشق العبارات وأرفعها؛ فكان الكتابَ الذي لا تُضاهَى لغتُه، ولا تُجارَى في مضمارٍ بلاغتُه؛ وإنّ مِن أخصِّ فنون البلاغة التي تعكس لنا إعجاز القرآن، وتُظْهِر لنا طراوته وطلاوته، وتكشف لنا إحكامه وتمامه ما اشتمل عليه من براعة الاستهلال في بيان إعجاز القرآن .
وهو مجالٌ رحبٌ للتدبّر في كتاب الله وشحذ الأذهان فيه وتذوّق معانيه؛ ولذلك كان هذا الموضوع جديرًا بأن يُطرق بابه ويُستخلص لُبابه، وقد أتى هذا المقال تلبيةً لهذا الغرض .
ونبدأ بسؤال لماذا وردت آيات الصيام بسورة البقرة دون غيرها من السور؟
والإجابة لأن سورة البقرة تناولت كثيرًا من التشريعات في العبادات والمعاملات وبيَّنت أحكامها، وقد استُعمل في بيان وجوب كثيرٍ منها لفظ (كُتِب) كما في قوله تعالى في شأن القصاص: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178]، وكما في قوله تعالى في شأن الوصية: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180]، وقوله تعالى في الصيام: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، وقوله تعالى في أمر القتال: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]، وفي إيثار هذا الاستعمال بهذا التعدّد في السورة ترجيحُ أن يكون ذِكْر الكتاب في مستهلّها قد قُصد به الإشارة إلى ما سيأتي فيها لاحقًا من تشريعاتٍ وأحكامٍ لاحتمال اللفظ ذلك على ما تبيّن آنفًا؛ ويكون ذلك -حينئذٍ- من براعة الاستهلال.
وإذا ثبتت براعة الاستهلال بلفظ (الكتاب) في حقّ سورة البقرة نفسها لما تضمنته من كثرة التشريعات والأحكام فهي ثابتةٌ في حقّ القرآن جميعًا؛ لما تضمّنه من تشريعات كثيرةٍ أيضًا، لا سيما في المدنيِّ منه؛ إِذْ كان الزمن زمن تشريعٍ وتفصيلٍ للأحكام .
والذي يظهر مما تقدّم أن لفظ (الكتاب) في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ قد أفاد الإشارة إلى أغراضٍ عديدةٍ كانت لتفوت لو عُبِّر عن التنزيل الإلهيِّ باسمٍ آخرَ غيرِه، وهذا مما يستدلّ به على إعجاز القرآن؛ وأنه تنزيلُ عليمٍ حكيمٍ .
وعندما نتدبر هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183] نداء المؤمنين بوصف (الإيمان) المحبَّب إليهم فيه مراعاة لطبيعة النفس البشرية التي يشقُّ عليها التكليف، فتحتاج إلى ما يسهّل عليها قبوله والاستجابة له، وإلى ما يستجيشها ويحثّها ويدفعها للقيام به، فكان هذا النداء بهذا الوصف تسهيلًا وترغيبًا، وحثًّا، وتذكيرًا بأنّ الإيمان بالله يقتضي الاستجابة لأمره مهما كان شاقًّا على النفس.
والنداء في مثل هذا المقام فيه تودّد وتلطّف، ولمَّا كان الصيام مما يشقُّ على النفوس كرّر النداء؛ إظهارًا للتلطّف بالعباد، وإظهارًا لمزيد الاعتناء بما سيُلْقَى إليهم من تكليف، لعلهم يرغبون في القيام بما سيُفرض عليهم مما قد يشقّ على نفوسهم.
استهل الكريم سبحانه الآية بتواضع مع عباده فخاطبهم بصيغة المبني للمجهول ولم يخاطبهم بصيغة الأمر، أو بصيغة التعالي وهو العالي (صيغت المبني للمعلوم) فلم يقل لهم: (كَتَبْتُ عليكم)، والله أعلم لأن الأمر فيه مشقة على المسلمين لكن عندما تحدث جل شأنه عن الرحمة، وهو الأعلم سبحانه قال جل في علاه ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهْ الرَّحْمَةَ ﴾ بصيغة المبني للمعلوم لأن الرحمة فيها تبشير وعفو وصفح مجاني من الرحمن الرحيم يتوق له الإنسان .
وقد صِيغ الفعل {كُتِبَ} ماضيًا، ولم يقيّد المكتوب بزمن مستقبل؛ للدلالة على أن الصيام تكليف قائم قد تحقّق وقوعه، فيبادَر إلى فعله.
ومع هذه الدلالة فإن اختيار التعبير بــ (الكتابة) يتلاءم مع معنى التيسير والتسهيل والتهوين؛ لأن (الكتابة) أخفّ وأسهل على النفوس من التعبير بــ (الإلزام أو الوجوب أو الفرض)، خصوصًا أن المكتوب {الصِّيَام} فيه مشقّة عليها، بتركِ أعظم ما جُبِلَت النفس على اشتهائه ومحبّته والرغبة فيه.
فاللهم يسر لنا الصيام والقيام وصالح الأعمال .
د/ عماد محمد مجاهد
إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف