اخر الاخبارتحليلات ومقالات

الشيخ ياسر العدلى : فرض الصلاة في ليلة الاسراء والمعراج

الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم.
لماذا الصلاة بالذات ؟
والعظمة من فرضها في رحلة الإسراء والمعراج.
فأين التدبر والخشوع أيها الإخوة والأخوات
….
لم تكن الصلاة يومًا غائبة عن حياتنا، لكنها في كثير من الأحيان غابت عن أثرها. نؤديها بانتظام، نعرف مواضعها، نحفظ ألفاظها، ونضبط حركاتها، ومع ذلك يظلّ في الداخل شيء لا يتحرّك، ولا يهدأ، ولا يُعاد ترتيبه كما ينبغي، كأن الصلاة تمرّ بنا دون أن تمرّ فينا، وكأن هذه الوقفة المتكررة بين يدي الله لم تُنشأ أصلًا لتفعل ما شُرعت لأجله. وكان هذا السؤال كافيًا لأن يقودني إلى حلقة من بودكاست فنجان، مع الدكتور أحمد بسام ساعي بعنوان إعادة اكتشاف الصلاة، لا طلبًا لإجابةٍ غائبة، بل بحثًا عن معنى قد يجعلني أعيد اكتشاف نفسي في الصلاة.

لم يكن حديثه عن هيئة الصلاة ولا عن تصحيح الأخطاء الظاهرة، بل عن تلك الألفة الثقيلة التي تسللت إلى العبادة ببطء حتى جعلتها تُؤدّى كما تُؤدّى الأشياء التي لا ننتظر منها مفاجأة. حين تتكرر الأشياء دون وعي تفقد قدرتها على الإيقاظ؛ نعتاد التكبير حتى لا نعود نسمعه، ونألف السجود حتى ننسى موضعه الحقيقي، ونقرأ الفاتحة وكأننا نقرؤها من صحيفة، ويمرّ اللسان على آياتها مألوفًا، بينما يغيب عن القلب أننا نقرؤها الآن في مقامٍ مختلف تمامًا؛ مقام ينتصف فيه الحديث بيننا وبين ربنا جلّ في علاه، حيث لا تُتلى الكلمات استذكارًا، بل تُقال جوابًا وخطابًا، وحضورًا لا رواية.

وهنا يظهر المعنى العميق للصلاة كما هي: ليست جُمَلًا مغلقة تُعطيك معناها كاملًا، بل عبارات مفتوحة تترك فراغًا مقصودًا ليملأه قلبك بما تحمله في تلك اللحظة. حين تقول: الله أكبر، لا يُقال لك أكبر من ماذا، لأن ما يثقلك ليس واحدًا عند الجميع، ولأن الله أكبر من كل ما تحمله أنت الآن تحديدًا.

ثم تأتي الفاتحة، السورة التي نظن أننا تجاوزناها من كثرة الحفظ، فإذا بها حين تُقرأ بترتيل تُعيد ترتيب العلاقة كلها من جديد. مالك يوم الدين… امتلاك الزمن لا الشيء، ومواجهة الحقيقة التي نؤجلها طويلًا: أن الأمر كله سيُردّ في لحظة لا يملك فيها الإنسان إلا ما قدّمه بقلبه. التوقّف عند الآيات، الإبطاء المتعمّد، والمدّ الذي لا يُقصد به تحسين الصوت بقدر ما يُقصد به إمهال القلب، لم يكن ترفًا صوتيًا، بل ضرورة نفسية تُجبر القلب على أن يلحق باللسان، وتمنح العقل زمنًا كافيًا ليستحضر ما يقوله بدل أن يفرّ منه. فالإنسان الذي يعيش مسرعًا يحتاج في عبادته إلى ما يُجبره على الإبطاء، لا إلى ما يزيد سرعته.

ومع هذا الحضور، لا يتغيّر الداخل وحده، بل يهدأ الجسد أيضًا؛ تهبط الكتفين، ينفكّ التوتر، ويعود الجسد إلى وضعه الطبيعي الذي أُخرج منه بالقلق والعجلة وتراكم الهموم. وكأن الصلاة حين تُعاش لا تفصل الإنسان عن حياته، بل تُعيد ضبطها، ولا تطلب منه أن يهرب من واقعه، بل تمنحه القدرة على مواجهته دون أن ينكسر. الركوع هنا ليس خضوعًا شكليًا، بل تدريب على ترك الثقل، والسجود ليس أدنى موضع، بل أقرب نقطة، والقيام ليس مجرّد وقوف، بل استعداد داخلي للعودة إلى العالم بميزان مختلف.

ولم يكن المطلوب أن يبلغ الإنسان هذا الحضور دفعة واحدة، ولا أن يخشع في كل صلاة خضوعًا كاملًا، بل أن يبدأ بصدق بسيط: ركعة واحدة لا يستعجلها، وعدٌ صامت بأن يبقى حاضرًا فيها، ولو خانته نفسه في غيرها. فالصلاة لا تحتاج جهدًا خارقًا، لكنها تفقد معناها حين تُؤدّى بلا وعي، وحين تُعامل كأي نشاط متكرر في اليوم. عندها فقط يتغيّر السؤال في الداخل دون ضجيج؛ لا يعود: لماذا لا أخشع؟ بل: هل ما زلت أسمح للصلاة أن تفعل فيّ ما شُرعت لأجله؟

وهنا يستقرّ المعنى الأخير بهدوء لا يحتاج إلى تأكيد: الصلاة لم تكن يومًا عبئًا يُضاف إلى اليوم، بل كانت دائمًا الموضع الوحيد الذي يُنزَع فيه هذا العبء، ولم تكن المشكلة في أننا نصلّي كثيرًا، بل في أننا اعتدنا الصلاة حتى كفّت عن إدهاشنا، وما لا يدهشك لا يوقظك، وما لا يوقظك لا يغيّرك، ولو تكرر ألف مرة.
لذلك سيظل قول الرسول عليه الصلاة والسلام ل ( بلال )
أرحنا بها يا بلال .
اللهم تقبل صلاتنا ووفقنا لها في أول وقتها.
وهب لنا لسانا ذاكراً وقلباً خاشعاً وجسداً على البلاء صابراً.

الشيخ ياسر عدلي