تحليلات ومقالات

دكتور عبد الرحمن طه : هندسة الشرعية الجيو-اقتصادية داخل الاتحاد الأوروبي

لاشك أنه ومع طول الحرب الاقتصادية بين الاتحاد الاوروبي و روسيا و اتحاد الصراع في الشرق الاوسط تختلط الامور في ذهن المتابع للاخبار واثرها الاقتصاد خاصة في منطقة اليورو وتزداد مع رغبته في التوسع التي تتصادم مع وثيقة الأمن القومي الامريكي وهو الصراع القادم بين اورقة الاتحاد الاوروبي وحتى لا نتفاجئ بهذا الصراع دون معرفة الاوضاع الجيو اقتصادية علينا أن نلقي نظرة على اسلوب الهندسة الجيو اقتصادية للاتحاد الاوروبي سواء في علاقته مع الاعضاء الحاليين او المتوقعين
ومن منطلق سيادة القانون إلى إدارة المخاطر سنرى كيف تُعاد تقييم الدولة (جيو- اقتصاديا ) داخل المنظومة الأوروبية

إذ لم يعد الاتحاد الأوروبي في العقد الأخير يعمل وفق منطق معياري جامد يقوم على الفصل الصارم بين الالتزام القيمي والاندماج المؤسسي، بل تحوّل تدريجيًا إلى منظومة هندسة جيو-اقتصادية للشرعية، حيث تُقاس الدول – سواء الأعضاء أو المرشّحة – بقدرتها على إدارة المخاطر النظامية التي قد تولدها اختلالات داخلية في القضاء أو الحكم الرشيد، وليس فقط بمدى امتثالها الشكلي لمعايير سيادة القانون. في هذا الإطار، ولم تعد الشرعية قيمة أخلاقية مجردة، بل أصبحت عنصرًا قابلًا لإعادة التسعير داخل معادلة السوق الأوروبية الواسعة، التي يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي المجمع أكثر من 17 تريليون يورو، وتمثل نحو 15٪ من الناتج العالمي.

فمنذ موجة التوسّع الكبرى بعد عام 2004، ثم أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو، وصولًا إلى صدمة الحرب الروسية-الأوكرانية، بات الاتحاد الأوروبي أكثر وعيًا بأن الصرامة القيمية المطلقة قد تُنتج هشاشة استراتيجية مرتفعة الكلفة اقتصاديًا. فتعطيل أو إخراج دولة طرفية من المنظومة لا يعني فقط رسالة سياسية، بل يولّد اضطرابًا في سلاسل الإمداد، وأسواق الطاقة، وتدفّقات الاستثمار. لهذا، تطوّر التفكير الأوروبي من منطق “الامتثال أو الإقصاء” إلى منطق إدارة المخاطر مقابل العوائد.

في الحالة المجرية، تتجلّى هذه المعادلة بوضوح في ملف الطاقة. فالمجر تعتمد على روسيا في أكثر من 80٪ من واردات الغاز، وتستورد ما يقارب 65٪ من احتياجاتها النفطية عبر خطوط مرتبطة بموسكو. في المقابل، جُمّدت للمجر أموال أوروبية تتجاوز 22 مليار يورو بين صناديق تعافٍ وأموال هيكلية بسبب مخاوف تتعلق بسيادة القانون. أمام هذه المعادلة، يصبح الحفاظ على قناة طاقة مستقرة منخفضة الكلفة أداة لتقليل الضغط الاقتصادي الداخلي، خصوصًا في دولة يشكّل فيها ارتفاع أسعار الطاقة عاملًا مباشرًا في التضخم والاستقرار الاجتماعي. الاتحاد الأوروبي، رغم إدراكه لمخاطر هذا السلوك، يوازن بين كلفة الضغط السياسي وكلفة اضطراب سوق الطاقة في وسط أوروبا، وهو ما يفسّر سياسة الاحتواء بدل القطيعة.

أما بولندا، فقد أعادت تسعير موقعها داخل الاتحاد عبر تحويل الجغرافيا إلى أصل اقتصادي-أمني. فبعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، مرّ عبر الأراضي البولندية أكثر من 70٪ من المساعدات العسكرية الغربية الموجّهة لكييف، كما استقبلت البلاد ما يزيد عن 3.5 مليون لاجئ أوكراني في ذروة الأزمة. هذا الدور الأمني ترافق مع تدفّق استثمارات دفاعية وبنى تحتية عسكرية، ورفع الإنفاق الدفاعي البولندي إلى أكثر من 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وهو من أعلى المعدلات داخل الناتو. في هذا السياق، أصبح الضغط الأوروبي الحاد على وارسو في ملف القضاء يحمل تكلفة أمنية واقتصادية أعلى من التساهل المرحلي، ما أدى عمليًا إلى إعادة إدماج بولندا تدريجيًا في دوائر القرار، مع بقاء ملف سيادة القانون مفتوحًا ولكن مؤجَّل الحسم.

في المقابل، تبرز إسبانيا كنموذج لاستخدام الشرعية الأخلاقية كأداة جيو-اقتصادية غير مباشرة. فالاقتصاد الإسباني يعتمد على السياحة والخدمات والاستثمار الأجنبي، حيث شكّل قطاع السياحة وحده أكثر من 12٪ من الناتج المحلي الإجمالي قبل جائحة كورونا، وعاد للاقتراب من هذا المستوى في 2023–2024. في اقتصاد شديد الحساسية للصورة والسمعة، يصبح تبنّي خطاب حقوقي واضح عنصرًا في تقليل مخاطر السمعة (Reputational Risk) وتحسين الجاذبية الاستثمارية، خصوصًا في الأسواق اللاتينية والمتوسطية. من هذا المنظور، لا تُقرأ المواقف الأخلاقية فقط بوصفها تعبيرًا سياسيًا، بل كجزء من إدارة المخاطر الاقتصادية طويلة الأمد.

وينتقل هذا المنطق بوضوح إلى دول البلقان الغربية، التي تُعد واحدة من أكثر المناطق حساسية في الحسابات الجيو-اقتصادية الأوروبية. فحجم اقتصاد البلقان الغربي مجتمعًا لا يتجاوز 2٪ من اقتصاد الاتحاد الأوروبي، لكنه يشكّل عقدة استقرار حاسمة على حدود الاتحاد. ألبانيا، على سبيل المثال، لا يتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي 23 مليار يورو، لكنها تقع في قلب توازنات البلقان الأدرياتيكي. إنشاء النيابة الخاصة لمكافحة الفساد والجريمة المنظمة (SPAK) كان، من منظور أوروبي، استثمارًا مؤسسيًا لتقليل مخاطر الفساد السياسي التي تعيق تدفّق الاستثمار الأجنبي المباشر، والذي لا يزال دون 1.5 مليار يورو سنويًا. التوتر بين القضاء والسلطة التنفيذية يُقيَّم أوروبيًا كعامل مخاطرة، لكن تكلفة احتوائه تُعد أقل من تكلفة ترك ألبانيا خارج منظومة الضبط الأوروبية.

فصربيا على سبيل المثال تمثّل حالة أكثر تعقيدًا. فهي أكبر اقتصاد في البلقان الغربي، بناتج محلي يتجاوز 75 مليار يورو، وشريك تجاري رئيسي للاتحاد الأوروبي الذي يستحوذ على أكثر من 60٪ من تجارتها الخارجية. في الوقت ذاته، تحتفظ بعلاقات طاقة وأمن مع روسيا، وتستورد منها ما يزيد عن 85٪ من احتياجاتها الغازية. هذا التوازن يجعل بروكسل تتعامل مع بلغراد بسياسة “الإدارة لا المواجهة” من خلال ضغط محدود في ملف سيادة القانون، مقابل الحفاظ على استقرار سلاسل التجارة والاستثمار في قلب البلقان.

أما الجبل الأسود، فرغم صغر حجمه الاقتصادي (ناتج محلي يقارب 8 مليارات يورو)، يُنظر إليه أوروبيًا كمرشّح منخفض المخاطر نسبيًا. ديونه العامة المرتفعة – التي تجاوزت 70٪ من الناتج المحلي الإجمالي بعد مشروعات بنى تحتية ممولة صينيًا – تشكّل تحديًا، لكن غياب الصدامات السياسية الحادة مع بروكسل يجعله قابلًا للإدماج السريع نسبيًا كوسيلة لتعزيز الاستقرار الإقليمي.

وعن مقدونيا الشمالية والبوسنة والهرسك وكوسوفو ( المعروفين باسم عملية برلين بجانب صربيا والجبل الاسود) تقع في مستويات مختلفة من هذه المعادلة. فمقدونيا الشمالية قدّمت تنازلات سياسية كبيرة – أبرزها تغيير الاسم – مقابل فتح مسار الانضمام، لكنها ما زالت تعاني من ضعف تدفّق الاستثمار وارتفاع البطالة. أما البوسنة والهرسك تمثّل أعلى مستويات المخاطر المؤسسية بسبب تعقيد بنيتها الدستورية، ما يجعل تكلفة دمجها مرتفعة أوروبيًا في المدى القصير. واخيرا كوسوفو، فرغم صغر اقتصادها (ناتج محلي يقارب 10 مليارات يورو)، فإن دعمها الغربي يُقرأ أساسًا في سياق إدارة المخاطر الأمنية أكثر من العوائد الاقتصادية المباشرة.

ضمن هذا السياق، أدّت الحرب في أوكرانيا إلى إعادة تعريف شاملة لمفهوم الشرعية داخل الاتحاد الأوروبي. فالدعم لأوكرانيا لم يعد فقط موقفًا سياسيًا أو أخلاقيًا، بل تحوّل إلى مؤشر لإعادة تسعير الدول داخل المنظومة الأوروبية. الدول الأكثر التزامًا بدعم كييف شهدت تخفيفًا نسبيًا للضغوط في ملفات أخرى، بينما أصبحت الشرعية نفسها متغيّرًا ديناميكيًا يخضع لمعادلة الأمن والطاقة والاستثمار.
والمحصلة النهائية ، فإن الاتحاد الأوروبي يعمل اليوم كنظام إدارة مخاطر جيو-اقتصادية أكثر منه نادٍ قيمي مغلق. فالقضاء المستقل وسيادة القانون يظلان الخيار الأقل كلفة والأكثر استدامة، لكن غيابهما لا يؤدي تلقائيًا إلى الإقصاء إذا استطاعت الدولة تقديم أصول بديلة تخفّض المخاطر الكلية للمنظومة، سواء عبر الأمن أو الطاقة أو السوق أو الشرعية الأخلاقية. غير أن هذا التسامح يظل مؤقتًا ومشروطًا؛ فالاتحاد قد يؤجل الحساب، لكنه لا يُلغيه، ويحتفظ دائمًا بإمكانية إعادة فتح ملفات الشرعية عندما تتغير موازين المخاطر والعوائد.

دكتور عبد الرحمن طه
الخبير الاقتصادى